ايات عن الصدق والامانة في الاسلام
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة الحجرات، الآية 15.
الذين تركوا أموالهم وبيوتهم وهاجروا في سبيل الله وكانوا ينصرون دين الله ونبيّه الكريم دائماً.
ونقرأ في الآية 117 من سورة البقرة صفات مهمّة اُخرى لهؤلاء الصادقين من قبيل الإيمان بالله تعالى ويوم القيامة والكتب السماوية والأنبياء وإنفاق الأموال في سبيل الله وإقامة الصلاة وأداء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر على المشكلات والصعوبات التي يواجهها المؤمن في حالات الجهاد.
ومن مجموع هذه الصفات الكريمة يتبيّن جيداً أنّ الصادقين ليس هم الصادقين في الكلام فقط، بل الصدق في الإيمان والعمل من خلال التقوى والتضحية وطاعة الله تعالى والتحرّك في خط الإيمان، رغم أنّ هذا المفهوم يمتد ليستوعب دائرة واسعة من المفاهيم الأخلاقية لكن النموذج الأكمل والأتم لذلك هم المعصومون(عليهم السلام) ولذلك ورد في الروايات الشريفة من طرق الشيعة وأهل السنة في تفسير هذه الآية أن المقصود بها علي بن أبي طالب(عليه السلام)وأصحابه، وكذلك ورد أنّ المقصود علي بن أبي طالب وأهل بيته(عليهم السلام).
وقد أورد العلاّمة (الثعلبي) في تفسيره عن ابن عباس أنّه قال: «مَعَ الصّادِقِينَ يَعنِي مَعَ عَلي بن أَبِي طالب وَأصحابِهِ»(1).
وقد ذكرت جماعة اُخرى من علماء أهل السنة مثل العلاّمة الگنجي في كفاية الطالب وسبط ابن الجوزي في التذكرة نفس هذا المعنى والمضمون مع تفاوت أنّه بدل كلمة الأصحاب وأورد ذكر أهل البيت(عليهم السلام) حيث يقول في ذيل هذه الرواية: «قَالَ ابنُ عَباس: عَلِيٌّ سَيِّدُ الصَّادِقِينَ»(2).
وجاء في الرواية الشريفة عن جابر بن عبدالله الأنصاري(رضي الله عنه) عن الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير الآية أنّه قال: «أَي آلُ مُحَّمد»(3).
وقد استوحى الكثير من المفسّرين من اطلاق هذه الآية أنّ هذا الأمر يشمل جميع
--------------------------------------------------------------------------------
1. احقاق الحق، ج3، ص297.
2. المصدر السابق.
3. تفسير نور الثقلين، ج2، ص280.
[ 176 ]
المسلمين في كل زمان ومكان، وبما أنّ الصادق المطلق هو الإمام المعصوم فالآية تدلّ على أنّه يجب وجود إمام معصوم في كل زمان (والتعبير بصيغة الجمع «الصادقين» لغرض أنّ المخاطب هو كافة الناس في كل زمان).
والنتيجة المستوحاة من هذه الآية هي أننا جميعاً مطالبون في أن نكون دائماً مع الصادقين، وهم الذين وردت أوصافهم في الآيات أعلاه والمصداق الأكمل لهم هم المعصومون(عليهم السلام).
—–
«الآية الثالثة» تتحدّث عن الثواب الذي ينتظر الصادقين يوم القيامة وقد جعلتهم الآية في مقابل المنافقين، وبعد أن بيّنت حال المؤمنين الصادقين والذين استشهدوا في سبيل الله وكذلك من ينتظر الشهادة منهم فتقول: (لِيَجْزِىَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً).
وبهذا يتبيّن الثواب العظيم على المستوى المادي والمعنوي الذي ينتظر الصادقين في الجنّة، وهم الصادقون في القول والعمل والعقيدة، وأمّا من خرج من دائرة الصدق وسلك في خط الباطل والكذب فإنّه يسقط في وادي النفاق والضلال.
—–
«الآية الرايعة» من الآيات محل البحث تشير إلى عشرة طوائف مبشّرة إيّاهم بالمغفرة والثواب الجزيل، والطائفة الرابعة منهم هم الصادقون والصادقات، وهذا يعني أنّ الإنسان بعد إعتناق الإسلام والإيمان والطاعة لله تعالى فلا فضيلة بعدها أعلى من الصدق في السلوك العملي حيث تبيّن هذه الآية إلى أية درجة يرتقي الصدق بالإنسان سواء الرجل أو المرأة، وقد ورد في الحديث النبوي المعروف: «لا يَستَقِيمُ إِيمـانُ عَبد حَتّى يَستَقِيمَ قَلبُهُ وَلا يَستَقِيمُ قَلبُهُ حَتّى يَستَقِيمَ لِسانُهُ»(1).
ويستفاد من هذا الحديث أنّه حتى الإيمان الكامل لا يحصل للإنسان إلاّ بعد الصدق
--------------------------------------------------------------------------------
1. المحجة البيضاء، ج5، ص193.
[ 177 ]
وإصلاح اللسان والقول، وأمّا الأشخاص الذين يعيشون الكذب في كلامهم فهم الفارغون من الإيمان الكامل.
—–
«الآية الخامسة» وبعد الإشارة إلى الحالة السلبية للمنافقين وتذبذبهم وتناقضهم في القول والعمل وخوفهم العظيم من الجهاد في سبيل الله تعالى الذي هو في الحقيقة أصل العزّة والفخر للإنسان المؤمن تقول الآية: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الاَْمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ).
فهؤلاء كانوا يقولون أننا عندما ينزل علينا الأمر بالجهاد فسوف نتحرّك من موقع الطاعة ولا نقول سوى المعروف والصدق، ولكن عندما يحين الوقت وينزل الأمر بالجهاد يتجلّى حينئذ عدم صدقهم وتهافتهم وتخاذلهم في حين أنّهم لو صدقوا الله لكان خيراً لهم.
هذا التعبير يدلّ على أنّ الكذب هو أحد علامات المنافقين، فقبل أن يواجهوا الأمر الواقع وتحين لحظة الحسم فأنّهم ينطلقون من موقع الوعد بالجهاد والثبات والانطلاق من موقع المسؤولية، ولكن عندما تحين اللحظة الحاسمة يتّضح كذبهم ونفاقهم، أي أنّ هذه الرذيلة الأخلاقية وهي الكذب تعدّ باباً ومفتاحاً للنفاق.
—–
«الآية السادسة»: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
ولا شك أنّ أصحاب النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) قد تجاوزوا اختبارات صعبة في ميدان العمل والواقع، وأحد أهم هذه الاختبارات هي مسألة الهجرة، التي تعني ترك البيوت والأموال وغض الطرف عن الأوطان وجميع التعلّقات التي ألفها الإنسان في وطنه والانتقال إلى مكان آخر يبدأ فيه الحركة والحياة من نقطة الصفر ويعيش هناك مع أنواع الحرمان والنقص في موارد المعيشة، وفي حالة ما إذا لم تهاجر معه الزوجة والأطفال فالصعوبات التي يواجهها هذا الإنسان المهاجر ستتضاعف وتشتد.
[ 178 ]
القرآن الكريم يتحرّك في هذه الآية من موقع التحذير لأصحاب النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)وأنّ هذه الهجرة هي إمتحان إلهي كبير (فاذا بقوا في مكّة فسوف ينالهم أنواع التعذيب من قبل المشركين ولو هاجروا إلى المدينة فسيواجهون أنواع الحرمان والفاقة) فيقول لهم القرآن الكريم أنّه لا تتصوّروا أنّ هذا الامتحان العسير في مواجهة تحدّيات الواقع من تعذيب المشركين أو الهجرة إلى المدينة أو الجهاد في سبيل الله ومواجهة الأعداء في ميدان القتال وأمثال ذلك منحصر بكم، فقد سبق أن اختبرنا الأقوام السالفة بأنواع الاختبارات والابتلاءات، وأساساً فإنّ الحياة الدنيا تدور حول الإمتحان والاختبار الإلهي ليتبيّن الصادق في إيمانه من الكاذب والمدّعي.
وفي الواقع أنّ هذه الآية تتحدّث عن الصدق بعنوان أنّه علامة الإيمان والكذب علامة النفاق والكفر.
وطبعاً إنّ الصدق والكذب في هذه الآية هو الصدق والكذب في العمل لا في القول، العمل الذي ينسجم ويتوافق مع ا دّعاءات الإنسان السابقة ويرسم له سلوكه الاجتماعي في حركة الحياة، والكاذب هنا هو الذي لا يتحرّك في سلوكه بما ينسجم مع إدعاءاته، وأيضاً الصدق والكذب في العمل وفي القول لهما جذر مشترك، لأنّ الصدق هو بيان الحقيقة والكذب على العكس من ذلك، وهذا التبيّن تارة يكون بوسيلة القول واُخرى بوسيلة العمل.
ومن مجموع الآيات أعلاه يتبيّن الأهميّة الكبيرة للصدق والصادقين وأنّ هذه الصفة تعد فضيلة أخلاقية من الفضائل التحتية للبناء الأخلاقي الفوقاني للإنسان، نعم فإنّه متى ما وجد الصدق فإنّ الصفاء والأمانة والثقة والاعتماد والشجاعة سوف تحصل للإنسان بالتبع، ولو لم يكن الصدق في واقع الإنسان فإنّ جميع هذه الصفات ستتبخّر وتتلاشى ويعيش الإنسان بدونها حالة الفراغ الروحي والجفاف المعنوي وحتّى أنّ الإيمان والعقيدة سوف لا تبقى سليمة كما هو المطلوب، والملفت للنظر أنّ الآيات الكريمة تذكر الصدق بعنوان أنّه صفة من الصفات الأصلية للقادة الإلهيين كما أشارت إلى ذلك الآيات أعلاه وهذا إنّما يدلّ على أنّ سائر فضائل الإنبياء والأولياء تدور حول محور الصدق وعلينا إذا أردنا معرفتهم والاطّلاع
[ 179 ]
على أحوالهم أن نتحرّك لتتبع أثر هذه الصفة الأخلاقية فيهم.
الصدق في الروايات الإسلامية:
إنّ أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية في الروايات الإسلامية أكثر من أن يقال أو يذكر في هذا المختصر، فالأحاديث الشريفة الواردة عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومين(عليهم السلام)في هذا المجال تجاوزت حد الحصر، ولكننا نكتفي في هذا الفصل بذكر نماذج منها لبيان أهميّة هذه الصفة من بين الصفات الأخلاقية للإنسان حيث يستفاد جيداً من الروايات أنّ جميع الفضائل الإنسانية تنبع من حالة الصدق.
1 ـ ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) في بيان أهميّة الصدق والذي تقدّم ذكره في الفصل السابق ولكننا نذكره مرة اُخرى لأهميته: «لا تَنظُروا إلى كَثْرَةِ صَلاتِهِم وَصَومِهِم وَكَثْرَةِ الحَجِّ وَالمَعرُوفِ وَطَنطَنَتِهِم بِالَّليلِ وَلَكِنْ اُنظُرُوا إِلى صِدقِ الحَدِيثِوَأَداءِ الأَمانةِ»(1).
2 ـ ونقرأ في الحديث الشريف عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إِن اللهَ لَم يَبعَثْ نَبيّاً إلاّ بِصدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأمـانةِ إِلَى البِرِّ والفـاجِرِ»(2).
3 ـ وفي حديث آخر عن هذا الإمام يقول حول تأثير الصدق في جميع أعمال الإنسان وسلوكياته «وَمَن صَدَقَ لِسانُهُ زكَى عَمَلُهُ»(3)، لأنّ الصدق يمثل الجذر والأساس لجميع الأعمال الصالحة، وسوف يأتي لاحقاً بيان هذا المطلب بالتفصيل.
4 ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق أيضاً في كتابه إلى أحد أصحابه ويُدعى عبدالله بن أبي يعفور حيث قال له: «اُنظُر مـا بَلَغَ عَلَيٌّ بِهِ عِندَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)فَأَلزَمَهُ، فَإنَّ عَلِيّاً(عليه السلام) إِنّما بَلَغَ مـا بَلَغَ عِندَ رَسُولِ الله(صلى الله عليه وآله) بِصدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأمـانَةِ»(4).
--------------------------------------------------------------------------------
1. بحار الانوار، ج68، ص9، ح13.
2. اصول الكافي، ج2، ص104، ح1.
3. المصدر السابق، ح3.
4. اصول الكافي، ج2، ص104، ح5.
[ 180 ]
هذا التعبير يدلّ على أنّ الإنسان حتّى لو كان شخصية كبيرة وعظيمة مثل علي بن أبي طالب(عليه السلام) إنّما وصل إلى هذا المقام السامي عند رسول الله(صلى الله عليه وآله) ببركة هاتين الصفتين: صدق الحديث، وأداء الأمانة.
5 ـ وقد ورد في الحديث الشريف أنّه سُئل أميرالمؤمنين(عليه السلام): «أي النّاسِ أَكرمُ؟ فَقَالَ: مَنْ صَدَقَ فِي المَواطِن»(1).
ونظراً إلى أنّ القرآن الكريم يقول
إنّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقاكُم)(2) يتضّح أنّ روح التقوى هي الصدق في الحديث.
6 ـ وفي حديث آخر عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يتحدّث فيه عن تأثير الصدق في نجاة الإنسان من الأخطار والمشكلات حيث يقول: «ألزموا الصدق فإنّه منجاة».
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) ورد تشبيهاً جميلاً عن الصدق حيث يقول: «الصِّدقُ نُورٌ غَيرَ مُتَشَعشِع إِلاّ فِي عـالَمِهِ كَالشَّمْسِ يَستَضيءُ بِهـا كُلُّ شَيٍّ يَغْشَاهُ مِنْ غَيرِ نُقصـان يَقَعُ عَلى مَعنـاها».
ويقول الإمام(عليه السلام) في ذيل هذا الحديث: «الصِّدقُ سَيفُ اللهِ فِي أَرضِهِ وَسَمـائِهِ أَينمـا هَوى بِهِ يُقَّدُّ» (3).
7 ـ وعن أهميّة الصدق يكفي أن نذكر الحديث الشريف الوارد عن أمير المؤمنين(عليه السلام)حيث يقول: «الصِّدقُ رأسُ الدِّينِ».
ويقول في حديث آخر: «الصِّدقُ صَلاحُ كُلِّ شَيء».
ويقول في حديث آخر أيضاً: «الصِّدقُ أَقوى دَعـائِمُ الإِيمـانِ».
وفي رواية اُخرى يقول: «الصِّدقُ جَمـالُ الإنسـانِ وِدَعـامَةُ الإيمـانِ».
وأخيراً يضيف إلى ذلك تعبيراً مهمّاً آخر عن الصدق ويقول: «الصِّدقُ أَشرَفُ خَلائِقِ المُؤمِنِ»(4).
--------------------------------------------------------------------------------
1. بحار الانوار، ج67، ص9، ح12.
2. سورة الحجرات، الآية 13.
3. بحار الانوار، ج68، ص10، ح18.
4. غرر الحكم.
[ 181 ]
8 ـ ونختم هذا البحث الطويل بحديث شريف عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) يتحدّث فيه عن مفتاح الجنّة والنار ويقول: «إِنّ رَجُلاً جـاءَ إِلى النَّبِيِّ فَقـالَ يـا رَسُولَ اللهِ مـا عَمَلُ الجَنَّةِ؟ قَـالَ: الصِّدقُ، إِذا صَدَقَ العَبدُ بِرَّ وإذا بَرَّ آمَنَ، وإذا آمَنَ دَخَلَ الجَنَّةَ قَـالَ: يـا رَسُولَ اللهِ وَمـا عَمَلُ النَّارِ؟ قَالَ: الكِذبُ، إِذا كَذِبَ العَبدُ فَجَرَ، وَإِذا فَجَرَ كَفَرَ، وإِذا كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ»(1).
والملفت للنظر أنّ هذا الحديث الشريف يعدّ الصدق منبع الخير والصلاح وبالتالي فهو منبع الإيمان أيضاً، وما ذلك إلاّ لأنّ الفاسق يتحرّك في تبرير أعماله الدنيئة من موقع الكذب والدجل والخداع، هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ روح الإنسان ستضعف بسبب الكذب وتدريجياً يضعف الإيمان أيضاً وبالتالي يفضي ذلك إلى الكفر والسقوط من درجة الإنسانية كما قال القرآن الكريم: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون)(2).
9 ـ ونقرأ في حديث آخر عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) قوله «إذا أَحَبَّ اللهُ عَبدَاً أَلهَمَهُ الصِّدقَ»(3).
10 ـ ونختم هذا البحث بحديث آخر عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «أَربَعٌ مَنْ اُعطِيَهُنَّ اُعطِي خَيرَ الدُّنيـا وَالآخِرَةِ صِدقُ حَدِيث وَأَداءُ أَمـانَة وَعِفَةُ بَطن وَحُسنُ الخُلق»(4).
—–
ومن مجموع هذه الأحاديث الشريفة يمكننا أن نستوحي نكات مهمّة في دائرة هذه الصفة الأخلاقية:
إنّ الصدق هو أحد الطرق التي تتجلّى فيها شخصية الإنسان وإيمانه وبذلك يمكن اختباره من هذا السبيل.
إنّ الدعوة إلى الصدق هي أحدى البنود الأساسية لدعوة الإنبياء والمرسلين في خط
--------------------------------------------------------------------------------
1. ميزان الحكمة، ج3، ص2674.
2. سور الروم، الآية 10.
3. غرر الحكم.
4. المصدر السابق.
[ 182 ]
التكامل المعنوي والإلهي.
إنّ الصدق يتسبب في طهارة الأعمال وقبول الأفعال.
إنّ المقام المعنوي للإنسان عند الله تعالى يدور مدار الصدق.
إنّ أكرم الناس هم الصادقون.
إنّ الصدق يتسبب في النجاة في الآخرة.
إنّ الصدق أقوى دعائم الدين.
إنّ الصدق مفتاح الجنّة.
الصدق علامة محبوبية الإنسان لدى الله تعالى.
إنّ الإنسان الصادق سينال خير الدنيا والآخرة.
ونظراً إلى هذه النتائج والمعطيات العشرة للصدق يتّضح جيداً أنّ هذه الصفة الأخلاقية المهمّة لا تلحقها صفة اُخرى بهذه المعطيات الكثيرة.
بقي هنا في هذا الموضوع المهم أن نذكر عدّة اُمور (رغم أنّه قد أشرنا إليها في ضمن الأبحاث السابقة).
1 ـ تأثير الصدق في حياة الإنسان
بالرغم من أنّ تأثير الصدق في حياة الإنسان يعدّ بديهيّاً وتوضيح هذا الأمر يعدّ من توضيح الواضحات، ولكن عندما ندخل تفاصيل المسألة نواجه المعطيات الإعجازية الكبيرة للصدق في جميع مفاصل الحياة البشرية، والالتفات إلى هذه المعطيات المهمّة بإمكانه أن يكون دافعاً قوياً للتحلّي بهذه الصفة الأخلاقية الكبيرة.
وأول تأثير للصدق في حياة الإنسان هو مسألة الثقة وجلب الاطمئنان والاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع في حركة التفاعل الاجتماعي.
ونعلم أنّ أساس الحياة الاجتماعية للإنسان هو العمل على المستوى الجماعي ولا يتسنى ذلك إلاّ بأن يتعامل أفراد المجتمع فيما بينهم من موقع الثقة المتبادلة واعتماد البعض
[ 183 ]
على البعض الآخر، وهذا المعنى لا يتحصّل إلاّ بتوفر عنصر الصدق والأمانة بينهم، أجل فإنّ أهم وسيلة مؤثّرة في جذب إعتماد الناس هو الصدق، وأخطر وسيلة وأداة لهدم العلاقات الاجتماعية وتخريب أواصر المودّة بين الأفراد هو الكذب، ولا فرق في هذا الأمر بين المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية.
فالرجل السياسي المحنّك والذي يعتمد عليه الناس إذا تورط في مورد أو عدّة موارد من الكذب وسمع منه الناس ذلك، فإنّهم سيتباعدون عنه وبهذا يخسر نفوذه وشخصيته بين الناس.
والعالم أو المكتشف إذا تلّوث بالكذب في تحقيقاته العلمية فقد إعتماد المحافل العلمية باختراعاته وتحقيقاته وبالتالي تذهب أتعابه أدراج الرياح وتكون تحقيقاته المدوّنة حبراً على ورق.
المؤسسات الاقتصادية أيضاً إذا تعاملت في الأعلان عن منتوجاتها وبضائعها من موضع الكذب والدجل فإنّ الناس سوف لا يثقون بمنتوجاتها بعد ذلك وسوف تخسر هذه المؤسسات زبائنها سريعاً.
وفي دائرة الإدارة إذا لم يصدق المدير مع مرؤوسيه وموظفيه فإنّ نظم هذه الدوائر أو المؤسسة سوف يتلاشى بالتأكيد، وعلى هذا نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ أساس جميع أشكال التقدّم المعنوي والمادي في المجتمع يتمثّل بالاعتماد المتقابل بين الأفراد والذي يعتمد بدوره على الصدق.
ولذلك ورد في الرواية الشريفة عن أمير المؤمنين أنّه قال: «الصِّدقُ صلاح كُلِّ شيء والكِذبُ فَسـادُ كُلِّ شَيء»(1).
وقال أيضاً في حديث آخر: «الكَذِّابُ والمَيِّتُ سَواءٌ فإنَّ فَضِيلَةَ الحَيِّ عَلَى المَيِّتِ الثِّقَةُ بِهِ، فَإذا لَمْ يُوثَقُ بَكلامِهِ فَقَد بَطَلَتْ حَيـاتُهُ»(2).
--------------------------------------------------------------------------------
1. غرر الحكم.
2. المصدر السابق.
[ 184 ]
والأمر الآخر هو أنّ الصدق يهب لصاحبه شخصية اجتماعية مرموقة في حين أنّ الكذب يتسبب في فضيحته وذهاب ماء وجهه وسمعته، والإنسان الصادق يعيش حياة العزّة والكرامة دائماً أمّا الكاذب فيعيش حالة الدناءة والحقارة والانتهازية.
ولهذا ورد عن أميرالمؤمنين أنّه قال: «عَلَيكَ بِالصِّدقِ فَمَنْ صَدَقَ فِي أَقوالِهِ جَلَّ قَدرُهُ»(1).
ومن جهة ثالثة نجد أنّ الصدق والأمانة يهبان للإنسان الشجاعة والشهامة في حين أنّ الكذب والخيانة يجرّان الإنسان إلى السقوط في هوة الخوف والفزع من إنكشاف أمره وافتضاح حاله وبالتالي خسران جميع ما أعدّه سلفاً لحياة كريمة وسعيدة من خلال الكذب والخداع والخيانة.
ومن جهة رابعة فإنّ الصدق بإمكانه أن ينقذ الإنسان من كثير من الذنوب والآثام، لأنّه في حال ما لو ارتكب ذنباً معيناً ثمّ سأل عنه فإنّه لا يستطيع الإقرار بهذا الذنب والاعتراف به، فمن الأفضل له أن لا يرتكبه سلفاً.
وقد ورد في الحديث الشريف المعروف عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) أنّه جاء رجل إليه(صلى الله عليه وآله)وقال: أنا يا رسول الله استسر بخلال أربع، الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والكذب، فأيّتهنّ شئت تركتها لك، قال(صلى الله عليه وآله): «دع الكذب».
فلما ولى هم بالزنا فقال: يسألني فان جحدت نقضت ما جعلت له وإن أقررت حددت، ثم هم بالسرقة ثم بشرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إليه فقال: قد أخذت عليَّ السبيل كلّه فقد تركتهنّ أجمع(2).
ومن جهة خامسة نجد أنّ الصدق يعمل على حلّ الكثير من المشاكل والأزمات في المجتمع ويسهّل للإنسان الوصول إلى مقصده ويقلّل من نفقات المسير ويهب الناس هدوءاً وطمأنينة ويزيل الاضطراب والقلق والتوتر الذي ينشأ من حالات احتمالات الكذب في
--------------------------------------------------------------------------------
1. غرر الحكم.
2. شرح نهج البلاغة، لابن أبي اللحديد، ج6، ص357.
[ 185 ]
أقوال الطرف الآخر ويوطد أركان المحبّة ويعمّق وشائج المودّة بين أفراد المجتمع وبذلك يفضي على شخصية هؤلاء الأفراد نوراً وبهاءاً أكثر، وقد أشارت الروايات الكريمة إلى هذا المعنى أيضاً وأنّ شخصية الإنسان الذاتية هي التي تدعو لئن يكون الإنسان صادقاً كما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «أَحسَنُ مِنَ الصِّدقِ قـائِلُهُ وَخَيرٌ مِنَ الخَيرِ فـاعِلُهُ»(1).
ونختم هذا الكلام بحديث شريف عن أمير المؤمنين(عليه السلام) كشاهد صدق على هذا المطلب حيث يقول: «يَكتَسِبُ الصَّادِقُ بِصِدقِهِ ثَلاثاً، حُسنُ الثِّقَةِ والمَحَبَّةِ لَهُ وَالمَهـابَةُ مِنهُ»(2).
2 ـ دوافع الصدق
إنّ هذه الفضيلة الأخلاقية كسائر الفضائل الأخلاقية الاُخرى لها جذور ودوافع في أعماق روح الإنسان منها:
الف: الاعتماد على النفس وعدم الشعور بالحقارة والدونية، حيث تدعوه هذه الحالة النفسية الإيجابية إلى الصدق والتعامل مع الآخرين من موقع الثقة بالنفس والواقع.
ب: الشجاعة والشهامة الذاتية والإكتسابية فلا يخاف من ذكر الاُمور الواقعية.
ج: الطهارة القلبية من أدران الذنوب وعدم وجود نقطة ضعف في شخصية الإنسان تدعوه إلى قلب الواقع، في حين أنّ الملّوث بالعيوب والخطايا قد يدعوه ذلك إلى الكذب لتغطية نقاط الضعف هذه.
د: والأهم من ذلك جميعاً هو أن يتجلّى الإنسان بالإيمان بالله والآخرة ويتحرّك في خط التقوى والاستقامة، فذلك من شأنه أن يكون عاملاً أساسياً للصدق، ولهذا السبب ورد في الحديث المعروف في نهج البلاغة قوله(عليه السلام): «أَن تُؤثِرَ الصِّدقَ حَيثُ يَضُرُّكَ عَلَى الكِذبِ حَيثُ يَنفَعُكَ»(3).
3 ـ مفهوم الصدق
ورغم أننا نفهم من هذه المفردة وضوح المعنى والمفهوم، ولكن في نفس الوقت هناك
--------------------------------------------------------------------------------
1. بحار الانوار، ج68، ص9.
2. غرر الحكم.
3. نهج البلاغة، الكلمات القصار، الرقم 458.
[ 186 ]
خلاف كثير بين العلماء في تعريفها، فالبعض ذهب إلى أنّ الصدق هو مطابقة محتوى الكلام للواقع، في حين ذهب البعض الآخر إلى أنّ الصدق هو مطابقة الكلام لاعتقاد الشخص واستدل بالآية الشريفة من سورة المنافقين حيث يقول تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)(1).
ومن البديهي أنّ المنافقين الذين يشهدون على نبوّة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) تكون شهادتهم هذه مطابقة للواقع، ولكن بما أنّها غير مطابقة لاعتقادهم، فلذلك ذكرهم الله تعالى بأنّهم كاذبون ونسبهم إلى الكذب، لأنّ هؤلاء يستخدمون هذه الشهادة بنبوّة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)كأداة للتغطية على شخصيتهم حيث يكون مفهوم كلامهم أنّ هذه الشهادة مطابقة لاعتقادهم الباطني، وبما أنّ هذا الكلام غير مطابق لواقعهم، فلذلك كانوا كاذبين، أي أنّ هؤلاء يكذبون في ادعاءاتهم أنّ هذه الشهادة مطابقة لمعتقدهم الباطني، وعلى هذا الأساس يتبيّن أنّ الصدق على كل حال هو تطابق الكلام مع الواقع سواءاً كان الواقع الخارجي أو الباطني.
ولكننا نقرأ في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) تعريفاً آخر للصدق والكذب وهو ناظر إلى بعد العبودية لله تعالى حيث يقول: «الصِّدقُ مُطـابَقَةُ المنَطِقِ لِلوَضعِ الإِلَهي والكِذبُ زَوالُ المَنطِقِ عَنِ الوَضعِ الإِلَهي»(2).
والمقصود من الوضع الإلهي ظاهراً هو وضع عالم الخلقة والوجود، الذي يتحرّك بإرادة الله تعالى، وعليه فإنّ هذا التعريف لا يخرج عن إطار التعريف السابق إلاّ بدخوله في دائرة المضمون التوحيدي.
وبالطبع فإنّ الصدق والكذب كما يجريان في كلام الشخص فكذلك يجريان في عمله وسلوكه أيضاً، فالأشخاص الذين يخالف عملهم ظاهرهم فإنّهم كاذبون من هذه الجهة، والأشخاص الذين يتطابق ظاهرهم مع باطنهم وأعمالهم، فإنّهم صادقون أيضاً.
—–
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة المنافقون، الآية 1.
2. غرر الحكم.
[ 187 ]
8/الكذب وآثاره وعواقبه
8
الكذب وآثاره وعواقبه
تنويه:
كان من المفروض أن نبحث الصدق والكذب في فصل واحد للملازمة الشديدة بينهما، ولأنّ أحدهما لا يعرف بدون الآخر، ولكن بما أنّ هذه المسألة وردت في الآيات والروايات الشريفة وكلمات علماء الأخلاق بصورة منفصلة رأينا أنّ من الأفضل التفكيك بينهما لنؤدي المطلب حقّه من البحث والتفصيل.
أجل فإنّ المفاهيم الإسلامية تؤكّد كثيراً على مسألة محاربة الكذب والدجل إلى درجة أنّ الكاذبين في النصوص الدينية في عداد الكفّار والملحدين وأنّ الكذب هو مفتاح جميع الذنوب كما ورد التصريح بذلك في الروايات الشريفة، بل إنّ الإنسان ما لم يترك الكذب بشتى أنواعه وأقسامه لن يذوق طعم الإيمان أبداً.
ونكتفي بهذه الإشارة إلى آثار الكذب وأخطاره لنعود إلى القرآن الكريم ونستوحي من آياته ما يتعلّق بهذا المفهوم والصفة الأخلاقية الذميمة:
1 ـ (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ)(1).
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة النحل، الآية 105.
[ 188 ]
2 ـ (إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)(1).
3 ـ (إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)(2).
4 ـ (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)(3).
5 ـ (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)(4).
وفي مسألة التكذيب الإلهي الذي هو أيضاً نوع من الكذب، وردت تعابير مهمّة في القرآن الكريم، منها:
6 ـ (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ)(5).
7 ـ (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)(6).
تفسير واستنتاج:
«الآية الاُولى» تتحدّث عن أنّ الكاذب هو الشخص الذي إنعدم فيه الإيمان بالله تعالى وأنّ الكاذب الحقيقي هو غير المؤمنين فتقول: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ).
وهذا في الوقت الذي كان فيه أعداء الإسلام من المشركين الجاهليين عندما يرون بعض آيات القرآن الكريم قد نسخت بسبب تغيير الظروف الزمانية وإستبدلت الأحكام السابقة بأحكام جديدة، فكان ذلك ذريعة لديهم في إتهامهم النبي(صلى الله عليه وآله) بالكذب، وقولهم أنّ هذا النبي له معلّم يعلّمه هذه الآيات (ومرادهم من المعلّم غلامين نصرانيين أحدهما يدعى يسار، والآخر جبر، أو رجل نصراني يدعى بلعام الرومي) في حين أنّ القرآن الكريم نزل بلسان عربي فصيح وهؤلاء كانوا من الأعاجم.
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة الزمر، الآية 3.
2. سورة غافر، الآية 28.
3. سورة التوبة، الآية 77.
4. سورة البقرة، الآية 10.
5. سورة يونس، الآية 69.
6. سورة آل عمران، الآية 61.
[ 189 ]
القرآن الكريم في مقام الجواب على إدّعاءات المشركين الواهية يقرّر أنّ النبي الأكرم يتلقى الوحي الإلهي الذي ينزل به روح القدس من الله تعالى وأنّ آثار الإيمان والصدق جليّة في كلامه، والأشخاص الذين يكذبون في كلامهم لا يؤمنون بالله تعالى، أي أنّ الإيمان لا يجتمع مع الكذب، والمؤمن الحقيقي لا يتحرّك لسانه من موقع الكذب اطلاقاً.
وجملة (يفتري الكذب) في الواقع تأكيد على كذبهم، أي أنّهم يرتكبون الكذب والتهمة في نفس الوقت، أو كما يقول الطبرسي في مجمع البيان بمعنى (يخترع الكذب) وهذا يعني أنّهم يختلقون كلاماً لا أصل له (الافتراء بمعنى فرية، هو في الأصل بمعنى قطع، ثم استعمل في كل عمل سلبي ومذموم ومنه الشرك والكذب والتهمة).
وفي الواقع فإنّ النسبة بين الكذب والافتراء هي نسبة العموم والخصوص المطلق، فالكذب يعني كل كلام مخالف للواقع، ولكنّ الافتراء أو التهمة هي أن يكون الكلام يحتوي في مضمونه على نسبة عمل مذموم إلى شخص معيّن.
ويحتمل أنّ قوله (يفتري الكذب) إشارة إلى رؤساء المشركين وقادة الكفر حيث يختلقون الكذب والعناوين من قبيل شاعر وساحر وينسبونها إلى النبي(صلى الله عليه وآله)ويتبعهم الآخرون بذلك.
وعلى أية حال فإنّ الآية أعلاه تبيّن بوضوح أنّ الكذب لا يجتمع مع الإيمان اطلاقاً، ولذلك ورد في تفسير هذه الآية رواية عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) عندما سُئل: «يـا رَسُولَ اللهِ المُؤمِنُ يَزني؟ قال: بلى، قالوا: المُؤمِنُ يَسرُقُ؟ قال: بلى، قالوا: المُؤمِنُ يَكذِبُ؟ قال: لا، ثُمَّ قرأ هذه الآية..»(1).
وبالطبع فلابدّ من ملاحظة أنّ الإيمان له مراحل ومراتب مختلفة.
—–
«الآية الثانية» من الآيات محل البحث تصّرح (إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ
كَفَّارٌ).
--------------------------------------------------------------------------------
1. الطبرسي في مجمع البيان; ابو الفتوح الرازي في تفسير ورج الجنان، في ذيل الآية المبحوثة.
[ 190 ]
ومن المعلوم أنّ الهداية والضلالة هما بيد الله تعالى حتى النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) لا يتمكن أن يهدي شخصاً ما لم تتعلّق بذلك مشيئة الله تعالى وإرادته كما ورد في الآية الشريفة: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(1).
ولكن هذا لا يعني أنّ الله تعالى يجبر بعض الناس على الهداية والبعض الآخر على الضلالة والانحراف، ثمّ يهب الجنّة ونعيمها الدائم الى الطائفة الاُولى ويرسل الطائفة الثانية إلى النار، فهذا هو مذهب الجبر الذي لا ينسجم مع العقل والمنطق ولا مع العدل الإلهي.
والمقصود من ذلك أنّه متى ما تهيأت الأرضية للهداية والضلالة في الإنسان بواسطة أعماله وأفعاله فإنّ الله تعالى سيمدّه بما يتوافق مع لياقته وقابلياته، فيعين الطائفة الاُولى للوصول إلى كمالهم المعنوي في خط الإيمان والعبودية والطاعة ويزيدهم من فضله ولطفه، ويرفع يده عن الطائفة الثانية ليبقوا في حيرتهم وفي دوّامة من السلوكيات المنحرفة والعقائد الباطلة التي لا يصلون معها إلى مقصودهم النهائي.